الشيخ درويش بن جمعة المحروقي
الشيخ درويش بن جمعة المحروقي
(ت: 1086هـ)+
ولد الشيخ درويش بن جمعة بن عمر بن جمعة المحروقي في بلدة الروغة من ولاية أدم، في أقصى جنوب داخلية عمان، وذلك حوالي سنة 1020ه الموافق له 1086م، من أبوين كريمين، غرسا فيه مكارم الأخلاق، ونبل السجايا، وحميد الخصال، وذلك في عصر ارتَدَت فيه عمان حلة العدل، واستراحت من جور الظلم، والطيش؛ في زمن إمامة الإمام سلطان بن سيف اليعربي، ومن قبله الإمام العادل ناصر بن مرشد اليعربي.
وقد شبَّ الشيخ المحروقي رحمه الله على همة واجتهاد في طلب العلم، يُعرف ذلك من نسخه لبعض كتب العلم كبيان الشرع الذي نسخ بعض أجزاءه مما وصل إلينا، ومن ذلك نعلم أن الشيخ كانت له همة وقادة، وطموح متوثب؛ فالصبر على نسخ الكتب وخاصة المطولة منها ليس بالأمر الهين، وقد نسخه لنفسه كما كتب في أخر الكتاب، ولم ينسخه لأجل طلب المال أو نحوه، وكان مما يروى عنه شغفه بطلب العلم حتى في أحلك الظروف وأصعبها؛ حتى أنه ليروى عنه أنه كان في بعض الأحيان يزجر[1] على ثور ليسقي مزرعته، وفي أثناء قيامه بالزجر يضع الكتاب في أسفل الخب[2]، فإذا وصل الدلو في قعر البئر استغل تلك الدقائق فيفتح الكتاب ويقرأ منه أسطرا حتى تمتلئ الدلو[3]، فلله دره ما أعظم همته، وما أذكى صنيعه.
وقد لقب الشيخ المحروقي بالزاهد فلا يكاد يذكر إلا لصيقا بلقبه، وهي صفة عظيمة تدل على شوق وترقب لما عند الله تعالى، وعدم اكتراث بمتع هذه الحياة؛ ولهذه الصفة جملة قصص تدل عليه، ومن ذلك أنه اكتال بيده قمحا من عند أحد التجار، وعندما عاد إلى بيته شعر بوجود شيء بين أصبه وبين الخاتم التي يلبسها فأدار الخاتم فإذا هي حبة قمح واحدة، فوقف برهة يراجع نفسه هل هذه الحبة مما قد اشتراه من عند بائع القمح، أم هي عندما قام يتأكد من نوعية القمح قبل شرائه؛ فرجح أنها للبائع، فقام عجلا وذهب إلى البائع ليرجع له تلك الحبة، فسبحان الله حبة قمح واحدة تشغل همة الرجل الكبير صاحب المسؤوليات، ويسرع إلى صاحبها ليرجعها، ولو كان الأمر من أحدنا لما ألقى لها بالاً أو اهتماما.
وكان للشيخ المحروقي جهود إصلاحية في زمانه، ولعل عمله في القضاء مكنه من القيام بهذا الدور المهم، فالإصلاح بين الخصوم مهمة ليست بالسهلة، وهي من صنيع العظماء أرباب الهمم العالية ذلك لأن من شأن النفوس عادة غلبة الحمية بالباطل والأنفة عن قبول الحق عند الخصومة إلا من رحمه الله من أهل التقى والصلاح، ومع ذلك فإن القيام بهذا الدور له خيرات كثيرة على المجتمع، فبه تتلاشى العداوات، وتختفي الخصومات، وتأتلف القلوب، ويحصل بينهم التعاون والمحبة والوئام.
وقد حفظ لنا التاريخ عدة رسائل في هذا المقصد النبيل منها رسالته لأهل الخضراء لما صار بينهم اختلاف، وشقاق أزعج الشيخ المحروقي أثره، فكتب لهم رسالة في غاية الرقة والعذوبة، مخاطبا بهم بأرفع الأسماء، ذاكر لمحامدهم وصفاتهم الحسنة، وأخذ في نصحهم بأسلوب جميل، مستشهدا بالآيات والشواهد المختلفة مبينا لهم مغبة الافتراق في الدنيا والآخرة، نلمس منها حرصا بالغا على توجيه الناس إلى الخير والصلاح.
وقد كان الشيخ المحروقي متواصلا مع علماء عصره راغبا في الاستفادة من علمهم، ولذا كانت له استفادة من أولئك العلماء كالشيخ صالح بن سعيد الزاملي النزوي الذي كما يظهر كان دائم الترداد عليه وسؤاله، ومنهم الشيخ مسعود بن رمضان النبهاني، والشيخ خميس بن سعيد الشقصي صاحب كتاب منهج الطالبين وغيرهم مما يدلنا دلالة واضحة على همة الشيخ وارتباطه العلماء مدارسة وبحثا وسؤالا في شتي قضايا العلم والمعرفة
وقد كان للشيخ المحروقي دور في التأليف، نلمس ذلك من رغبته الملحة في نصح الناس، وإبعادهم عما يوقع في المخالفة والعصيان، مبينا لهم أهمية الطاعة والعبادة الصحيحة لله تعالى، محذرا من كثير من المخالفات في شتى مناحي الحياة، وهذا ما يطبع مؤلفاته من توجيهها خاصة لعامة الناس لكثرة المخالفة منهم بسبب الجهل ونحوه.
ومن أهم كتبه كتاب الدلائل على اللوازم والوسائل، وهو كتاب فقهي معروف، وقد كتب له القبول وسعة الانتشار، وقد أجاد الشيخ المحروقي في صياغته، وحسن عرضه بأسلوب وعظي رائع، ويغلب على الكتاب الفقه، وفيه نبذة عن التوحيد والعقيدة والآداب ونحوها مما يحتاج الإنسان لمعرفته.
ومن كتبه أيضا كتاب الدرر الفاخرة في كشف علوم الآخرة، وهو عبارة عن رحلة تربوية ووعظية تبدأ من خروج الإنسان من هذه الحياة بالموت وما فيه من مباحث مرورا بالقبر وأحواله، وبعده الحشر، ووقوف الإنسان بين يدي الله تعالى للحساب، مستعرضا مشاهد من نعيم الجنة، وصورا من عذاب النار والعياذ بالله تعالى، وفي كل المراحل يقف المؤلف بدور الناصح الرحيم المشفق الداعي لسلوك الجادة والحق مدعما كلامه بالآيات والأحاديث والآثار المختلفة، والأشعار، لتبصير الإنسان بما ينجيه من تلك الأهوال.
ومن مؤلفات الشيخ كتاب جامع التبيان الجامع للأحكام والأديان؛ وهو عبارة عن موسوعة من الفتاوى للعلماء في عصر المؤلف ومن قبله، ابتداء بباب العلم ثم العقيدة وبعده أبواب الفقه المعروفة، والكتاب مهم في إظهار نماذج لفتاوى العلماء في ذلك العصر وحفظها، ومن كتب الشيخ أيضا كتاب الفكر والاعتبار، وهو كتاب قلما يوجد مثله في الكتب العمانية، اشتمل على جملة من الأبواب في التفكر في مخلوقات الله تعالى بداية من الإنسان مرورا بالبحار والأشجار والشمس والقمر ونحوها مما خلقه الله تعالى، والاعتبار بما وقع للسابقين، وبما قصه الله علينا في كتابه وجملة من النصائح والتوجيهات القيمة.
هذا وفي التاسع عشر من شهر ذي الحجة سنة 1086ه[4]، توفي العلامة المحروقي، بعد سنوات قضاها متعلما ومعلما وناصحا، وموجها، وقد دفن في المقبرة الشرقية من محلته بأدم، وممن رثاه بشير بن عامر الأزكوي في قصيدة يقول فيها:
يا نكبة برقت لها بها الأبصار وتزلزلت من هولها الأمصار
ومصيبة في الدين لم تترك حشا إلا وفيه من التلهب نار
شنت على أهل المدائن غارة شعواء جيش خطوبها جرار...
دعني أنوح على فراق مشايخ كانت لنا من علمهم أنوار
كالشيخ درويش سلالة جمعة ذي الزهد وهو العالم المختار
عجبا لقبر يحتويه وصدره فيه من العلم الشريف بحار
وإذا همى بالجود عارض كفه خجلت هناك بجوده الأمطار
رجل أمض قلوبنا فقدانه فسيول أدمعنا عليه غزار
أبكى الورى فراقه حتى لقد ناحت عليه الوحش والأطيار...
طفئت مصابيح الشريعة والهدى مذ مات هذا العالم التيار
الزاهد الوالي الولي المرتضى الحازم المتيقض الصبار
قد كان فيه عفة وقناعة وبراعة وشجاعة ووقار...
إذ كان في دنياه أزهد عالم يوما وللأخرى به إيثار[5]..
وهكذا طويت صفحة من صفحات العلم والخلق والورع، وبقيت أثار الشيخ وأعماله المجيدة، واضحة للمسترشدين، وطلاب العلم لينهلوا منها خلقا حميدا وعلما نافعا يقربهم لله تعالى زلفى، ولترتسم على الشفاه دعوات صادقة أن يرحم الشيخ المحروقي على ما قدم من عطاء وأسدى من جهد كبير.
[1] - الزجر: معناه هنا سحب الماء من البئر بالاستعانة بالدواب.
[2] - الخب: بطن الوادي، وفي الاستعمال الشائع الآن: المكان المنخفض الذي تمضي فيه الدابة حتى تسحب الدلو من البر.
[3] - البطاشي، سيف بن حمود، إتحاف لأعيان في تاريخ بعض علماء عمان، ط1، 1422ه، ج3، ص169.
[4] - وذلك حسب ما ورد في النسخة التي كتبها على بن بركات الإسماعيلي؛ ناسخ كتاب الفكر والاعتبار سنة 1205ه، والنسخة موجودة بمكتبة السيد محمد بن أحمد بالسيب برقم: 286، وقد أورد الناسخ سعيد بن خميس البهلوي أن يوم وفاته كان في السابع عشر من الشهر المذكور أعلاه، وهذه النسخة متأخرة عن الأولى إذ نسخت سنة 1321ه، والتاريخ الذي أثبته أعلاه هو الذي ظهر لي أنه الأصوب لقدم المخطوط، وعلى كل حال فالفارق بينهما يسير جدا (انظر مقدمة كتاب الفكر والاعتبار،للشيخ درويش بن جمعة المحروقي، تحقيق: صالح بن سعيد الحوسني، ص43-44)
[5]البطاشي، إتحاف الأعيان، ج3، ص171-173.