الشيخ محمد بن شامس البطاشي

المؤلف

الشيخ محمد بن شامس البطاشي

أحد أعلام عمان المعاصرين الشيخ العلامة محمد بن شامس بن خنجر البطاشي
ونسب بني بطاش يتصل بغسان القبيلة الأزدية خلافا للمشهور أنهم من طي وغسان من القبائل التي نزحت من اليمن بعد حادثة سيل العرم ونزلوا الشام واستوطنوا فيها دمشق وكانوا بها ملوكا إلى ظهور الإسلام ، وجبلة بن الأيهم هو آخر ملوكهم ، وبطاش هو لقب لأحد ملوكهم .
ولاته ونشأته
ولد القاضي ببلدة مسفاة بني بطاش بولاية قريات في الثاني عشر من صفر سنة 1330هـ توفي والده وهو رضيع ابن أربعة أشهر فكفله عمه المهنا بن خنجر وأخوه الأكبر عدي ابن شامس وهو رابع أخوته وأصغرهم سنا ولما بلغ من العمر سبع سنين قرأ القرآن الكريم على أخيه أحمد بن شامس ولم تمضي له أشهر حتى أتمه حفظا ثم أخذ في كتابة الخط وقراءة الكتب والشعر فحفظ من ذلك شيئا كثيرا معتمدا على ذاكرة قوية، مكنته من حفظ مائتي بيت من الشعر في اليوم الواحد، حتى انه حفظ ألفية الامام نور الدين السالمي في الأصول في خمسة أيام، كما كان يحفظ الجزء الواحد من القرآن في اليوم.
وكان أخوه أحمد بن شامس في صباه ذا فهم ثاقب وذكاء حاد ثم كان علامة نحريرا لا يشق له غبار في علم الآلة والعربية بل إنه كان منقطع النضير في زمانه وفي سنة 1343هـ سافر القاضي إلى نزوى بيضة الإسلام ومدينة العلم وعاصمة الإمامة وكان قد سبقه إليها أخوه أحمد وهناك نزل بساحة الإمام محمد بن عبدا لله الخليلي (رحمه الله) حيث أولاه عنايته ورعايته وقد أحس منه الإمام ذكاءا وقَّادا فقربه وأدناه وخصه من بين تلاميذه.
شيوخه
أخذ القاضي العلم عن كبار علماء عمان آنذاك وكانت نزوى جامعة العلوم في البلد ومقصد طلاب العلم يأتون إليها من أرجاء الوطن الكبير حيث يجدون بغيتهم فينهلون من علم تلك البحور وعلى رأس هؤلاء الأقطاب الإمام محمد بن عبد الله الخليلي رحمه الله وهو وإن لم يكن متفرغا للتدريس بحكم مسؤولياته تجاه الرعية إلا أن في ملازمته فائدة عظيمة فرجل كالإمام الخليلي لا يقضي وقته إلا في كل مفيد فقد كان متصديا للفتوى والاجتهاد ويهتم بشؤون العلماء وتلاميذهم ويسأل عن أحوالهم وإذا أحس من أحدهم فطنة وبديهة قرّبه وأدناه فكان القاضي (رحمه الله) ممن نال شرف هذا القرب من الإمام وكان الإمام يستعين بالقاضي في معرفة أنساب العرب وقد أطلق عليه الإمام لقب "نسابة عمان" وممن أخذ القاضي عنهم العلم الشيخ العالم حامد بن ناصر النزوي الملقب بسيبويه عصره فعنه أخذ علم النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والعروض والأدب عامة .
وأخذ عن الشيخ العلامة عبد الله بن عامر العزري الفقه وأصوله وأصول الدين والتفسير والحديث وعلم الكلام .
ومن شيوخه أيضا الذين أخذ عنهم العلامة الكبير أبو مالك عامر بن خميس المالكي والشيخ العلامة سعيد بن ناصر الكندي وغيرهم من العلماء المعاصرين.
وكان طول إقامته في نزوى لطلب العلم يروض نفسه على المكارم والأخلاق الحسنة فكان خير مؤدب لنفسه وخير معلم.
طرق أبواب العلم جميعها فدرس الفقه والأصول والحديث والتفسير وبرز فيها وقرأ النحو والأدب والشعر وله في النظم باع شاسع وإطلاع واسع أما علم الأنساب فقد أخذ منه بحظ وافر وله دراية كبيرة بقبائل عمان وبطونها ولا تسأله عن القبيلة إلا ويأتيك بنبئها.
ظل على كرسي القضاء في الفترة مابين 1356هـ إلى 1416هـ أي 60 سنة تخللتها فترات انقطاع بسبب استعفاء القاضي لأنه يرى القضاء وظيفة لا كالوظائف وإن من يتقلّد أمره فهو على خطر شديد إلا أن أطول الفترات المتصلة هي الفترة بين سنة 1390هـ إلى سنة1416هـ فعندما تولى جلالة السلطان قابوس بن سعيد الحكم طلب القاضي للقضاء وعيّن قاضيا للاستئناف في ديوان عام وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية،ورغم محاولات القاضي العديدة الاستعفاء بعد ذلك إلا أنه بقي في منصبه حتى عام 1416هـ .
وأول ولاية تقلّد قضائها ولاية قريات سنة 1356هـ ، ثم ولاه الإمام الخليلي قضاء حمراء العبريين ، وفي سنة 1361هـ تولى الإمام ولاية بدبد ووادي سمائل وكان قاضيا وواليا .
وتقضّى في وقت لاحق على ولاية جعلان ، كما تكرر تقلده قضاء ولاية قريات لمرات عديدة .
ومن خلال هذه الرحلة الطويلة في القضاء أصبح القاضي المرجع في شؤون القضاء وأحكامه لا تستعصي المسألة على أحد القضاة إلا ويجد لها الحل عند القاضي محمد بن شامس البطاشي .
وظل على هذا الحال حتى بعد التقاعد فكان القضاة يستفتونه ويشاورونه ويأتون إليه بالقضايا والأحكام فيبدي لهم رأيه فيها .
ولم يكن عمل القاضي مقصورا على القضاء فحسب بل تجاوزه إلى العمل المهني ، فكان مزارعا وفلاحا من الطراز الأول وقد أشتغل بالزراعة عمرا طويلا وغرس كثيرا من النخل والشجر وأصلح الفلج والسواقي وكان له اعتناء واسع بكل ما له تعلّق بالزراعة حتى بعد أن بلغ منه الشيب مبلغه كان يرتاح إلى ظل الشجر ويطيب له المقيل بين جنبات المزارع .
وما أبلغ ذلك المشهد عندما يأوي إلى الراحة من جهد العمل فيضع أداة العمل ويمسك بالقلم يسطّر به عبق العلم وشذا المعرفة .
أعماله الخيرية
بني القاضي عدة مساجد تقربا لله تعالى آخرها مسجد الحيطان ومن شديد حرصه رحمه الله على تنزيه المسجد عن اللغو وعن كلام الناس ،فقد ألصق بالمسجد بناءا آخر وجعله مجلسا خاصا بالمصلين وكان إذا صلى بالناس نقلهم من المسجد إلى المجلس ولا يسمح لهم بالجلوس في المسجد إلا للعبادة ،وكان يقول سنة استنها عمر بن الخطاب فنحن نقتدي به وننزه مسجدنا عن قيل وقال .
مؤلفاته
ترك القاضي للمكتبة الإسلامية ذخيرة وافية من الكتب الشرعية واللغوية وترك شعرا كثيرا ومن مؤلفاته:
1. سلاسل الذهب في الأصول والفروع والأدب:
{ موسوعة إسلامية من عشرة مجلدات في مائة ألف بيت وأربعة وعشرين ألف بيت من بحر الرجز وهو بذلك أكبر وأضخم ديوان شعر في تاريخ النظم الإسلامي ، وقد فرغ من تلك الموسوعة في 3 سنوات، كان خلالها لا ينقطع عن مهام عمله، فإذا مر الشهران دون نظم بيت واحد، عوضه بنظم ألف بيت في يوم واحد }.
2. غاية المأمول في الفروع والأصول:
كتاب قيم في الفقه وأصوله وأصول الدين يقع في تسعة أجزاء ذكر فيه أبواب العبادات والمعاملات بشيء من التفصيل وهو من أنفع كتب الفقه وأجودها
3. إرشاد الحائر في أحكام الحاج والزائر:
جمع هذا الكتاب مسائل الحج والعمرة والأحكام المتعلقة بهما وكل ما يحتاج إليه حاج بيت الله الحرام وقاصد زيارة قبر نبيه صلى الله عليه وسلم.
4. كشف الإصابة في اختلاف الصحابة:
يبحث في اختلاف الصحابة أثر مقتل عثمان بن عفان ومبايعة علي بن أبي طالب وما صاحب ذلك من حروب وفتن ويبحث في قضية التحكيم وأهل النهروان ويقارن سيرة بني أمية والعباس بسيرة أئمة الإباضية في عمان والمغرب.
5. تحفة الأصحاب على ملحة الإعراب:
منظومة في النحو والصرف اختصر فيها ملحة الإعراب للحريري في نظم سهل سلس.
6. نبذة عامة عن ولاية قريات .
تكلم فيها عن ولاية قريات وعن أهم قراها وبلدانها وذكر العلماء الذين تخرجوا منها وقادتها ورجالها والأبراج والقلاع والحصون الموجودة فيها وتكلم عن الأفلاج والحيوان والأشجار والأودية والجبال وغير ذلك.
7. رسالة في صلاة الجمعة :
تطرق في هذه الرسالة إلى بعض مسائل الخلاف في صلاة الجمعة من نحو موضع إقامتها وشروط وجوبها.
8. مجموعة جوابات:
جوابات لمن يرد عليه من سؤالات من العامة والخاصة وكثير من هذه الجوابات شعر ولم يقدّر لها أن تجمع في كتاب واحد .
9. ديوان شعر:
يتألف من مجموعة قصائد من أغراض الشعر العديدة
10.سيرة ذاتية:
كتبها عن نفسه وحياته وعرف بنفسه فيها وذكر مراحل تعليمه وشيوخه والأعمال التي تقلدها والصعاب التي واجهها وتكلم عن الفترة التي أعقبت موت الإمام الخليلي وموقفه منها.
11. كتاب في أنساب أهل عمان ألفه بالاشتراك مع بعض أشياخ العلم.
شعره
قال القاضي الشعر وهو في سن الصبا ويمتاز شعره بالسلاسة والعذوبة وبالجزالة والرصانة لم يترك بابا من أبواب الشعر إلا وطرقه حاشا باب الغزل والمجون.
ومن أوليات شعره هذه القصيدة التي قالها مخاطبا قومه حال توجهه لطلب العلم بنزوى ومقامه في كنف الإمام الخليلي رحمه الله وسنه يومئذ أربع عشرة سنة.
أول قصائده
يا رائحا باليعملات وغادي
يطوي المفاوز من ربى وهاد
أبلغ بني بطاش أن محمدا
ساع إلى كسب العلوم وغادي
من كان يسعى لاكتساب معيشة
ويبيت فوق أرائك ووساد
فأنا إلى طلب المكارم لم أزل
أسعى بهمة ماجد نقساد
ما إن تراني والمهيمن مغرما
بجبين فاطمة وعين سعاد
سأحالف الخلوات في ظلماتها
وأواصل الأرقال بالآساد
وأهين هدبي في طلب العلى
حتى أحصل بغيتي ومرادي
فليهنا قومي بالدنا إني امروء
قد بعتها بخسا بسوق كساد
الموت (في رثاء الشيخ العزري)
الموت حتم فما عنه لنا هرب
ولو تطاولت الأعوام والحقب
في كل آن وحين تسمعن لقد
أودى سعيد وعمر زاده العطب
وهكذا جرت الأقدار لا أحد
يبقى فقس ما بدا فالعمر منتهب
كلامنا (أرجوزة في النحو)
كلامنا لفظ مفيد ركبا
كجاز عمار وكمر نكبا
وهو إلى اسم وفعل قسما
وحرف معنى نحو عمرو قد سما
فالاسم بالتنوين والجر والندا
ميز وتعريف واسناد بدا
والفعل بالسين وسوف قد وتا
قمت وقامت نون قاربن الفتى
كيف يقضي يومه
يبدأ الشيخ يومه من ساعات الصباح الأولى وقبل تباشير الفجر الأول فيتوضأ ويصلي ما شاء الله ثم يطالع كتب الأثر ويكثر من التسبيح والاستغفار ويبدأ ورده اليومي من القرآن الكريم وكان قد اتخذ وردا يوميا يقرأ فيه عشرة أجزاء من القرآن الكريم حتى إذا ما أذن للفجر قام وصلى سنة الفجر بالبيت ثم يذهب للمسجد ويصلي بالناس الفجر وبعد الصلاة يعقد حلقة لقراءة جزء واحد من القرآن مع مجموعة من المصلين ثم يعود للبيت ويطالع في الكتب إلى شروق الشمس فيفد عليه أصحاب الحاجات من مستفتين ومن خصوم ومن متعلمين ثم يدعو بالإفطار فيشاركه الحاضرون الأكل ثم يغتسل ويتوضأ ويستعد للذهاب إلى المحكمة وفي الطريق من البيت إلى المحكمة يقرأ جزءا من القرآن الكريم وكذلك في طريق العودة ويظل بالمحكمة حتى يصلي الظهر ولا يقتصر وجوده بالمحكمة على فصل القضاء بل يرد على أسئلة المستفتين من القضاء وطلبة العلم وعامة الناس ثم يعود للبيت ويطالع في الكتب ثم يتناول الغداء ويضطجع قليلا وأحيانا يزعجه الناس عن الراحة بعدها يخرج لصلاة العصر ثم يعود للبيت فإن كان ثمت أناس استمع إليهم أو أنه يشتغل بورده وبالمطالعة ولا يخلو هذا الوقت غالبا من الناس فإذا كان وقت المغرب خرج للمسجد ثم يعود للبيت وهذا الوقت مزحوم بالناس ونادرا ما يجد فراغا للمطالعة ، فإذا حان وقت الصلاة خرج القاضي للمسجد وربما آذن الجالسين معه بضرورة مغادرته للمجلس فإن بعض الناس لا يفقهون ذلك ويواصلون حديثهم إلى وقت الصلاة.
وزوار مجلس القاضي رحمه الله على مراتب ودرجات : فهناك العلماء والقضاة ومن في حكمهم من طلبة العلم وهؤلاء لهم منزلة خاصة عند الوالد ويستبشر بقدومهم ويقربهم ويدينهم ويأخذ معهم أطراف الحديث وجل كلامه معهم في مباحث العلم.
وهناك علية القوم والشيوخ والرؤوس في جماعتهم ومن في حكمهم من أصحاب المناصب والكراسي وهؤلاء يعرف القاضي قدرهم ويحفظ لهم منزلتهم ويكون حديثه معهم عن قضايا المجتمع وهموم الأمة وعن النزاعات القبلية ومحاولة إيجاد الحلول لها.
وهناك الخصوم وأصحاب النزاعات وهؤلاء يحاولون حل مشاكلهم وخصوماتهم عند القاضي قبل بروزهم للمحكمة وكم من قضايا لم تعرف طريقا للمحكمة بفضل إصلاح القاضي للمدعين بل إن كثيرا من الناس والقبائل تعارفوا بينهم على رفع دعواهم للقاضي قبل أن يترافعوا أمام المحاكم تقديرا له وثقة فيه.
وهناك أصحاب الحاجات وهؤلاء إما تكون حاجتهم مقضيه عند القاضي أو أنه يسعى بنفسه لدى الجهات المختصة لقضائها.
وهناك المستفتون وأصحاب السؤالات وهؤلاء غايتهم جواب يروي ظمأهم ويرفع الإشكال عن إفهامهم .
هؤلاء هم عموما جلساء القاضي وزواره وعمار مجلسه ومعهم يقضي أغلب وقته.
وربما تواصل المجلس إلى ما بعد صلاة العشاء فإذا انفض سامر القوم قام القاضي وصلى النوافل واتبعها الوتر ثم يطالع الكتب ويكمل ورده اليومي من القرآن الكريم وينام في ساعة متأخرة من الليل ويصحوا في الساعات الأولى من الصباح ومجمل ما ينامه في اليوم والليلة ثلاث ساعات.
هكذا يقضي القاضي يومه وقد يأتي عليه وقت يخالف فيه النظام المذكور لا سيما بعد صلاة العصر ففي هذا الوقت يخرج أحيانا من البيت لأداء بعض الواجبات كالزيارات والتعازي.
وبعد التقاعد لازم القاضي البلد واستقر بالمسفاة فنالت حظا باستقراره فيها وصارت قبلة الوفود وكعبة القصاد ومع إن الناس تعارفوا أن التقاعد يعقبه وقت الراحة والاسترخاء وتناقص العطاء إلا أن القاضي لم يكن يعرف هذا المعنى فتواصل عطاؤه كما كان واستمر في إسداء المشورة والنصح والإصلاح كما بقي مرجعا للقضاة لكل ما يشكل من قضايا .
[حياته]
كان يعيش حياة متواضعة بعيدة كل البعد عن صخب الدنيا وزخرفها فكان ينام على الأرض ويترك السرير زهدا فيه ويلبس ما تيسر من الثياب ويأكل ما حضر ويسكن في بيت متواضع ولا يخرج للأسواق ولا يذهب للنزهات ولا يشاهد التلفاز وكان يعد أحسن ما فيه مضيعة للوقت بل إن بيته الذي بالبلد لم يكن به تلفاز إطلاقا.
حيث ترك أبوابا كثيرة من الدنيا بغضا فيها وتعففا عنها ولو أراد عرضها كما أرادها غيره لكانت يديه ولكنه قنع منها بالقليل.
وفاته
يقول ابنه الحارث لطالما ردد سيدي الوالد مرارا عديدة هذين البيتين من شعره:
اللهم أسألك الشهادة إن دنا
آن انقضا أجلي وحم مماتي
فأموت في كرم كموت أئمتي
بلج ومرداس وذي الثفنات
ثم يستدرك ويقول إن لم يشأ الله لنا نيل الشهادة فنموت في الجهاد حتى يكون موتا كموت بلج ومرداس وذي الثفنات ويعلم الله أنا جاهدنا وطبلنا الموت في سبيله ولكن فلا أقل من أن نسأل الله حسن الخاتمة.
كان من عادة القاضي رحمه الله أنه لا ينام إلا على طهارة فإذا صلى النوافل والوتر جلس ماشاء الله له في مطالعة كتب الأثر أو في الاستغفار والتسبيح ثم ينام على وضوئه السابق فلما كان قبل وفاته بحوالي الشهرين جعل يتوضأ وضوءا آخر قبيل النوم مباشرة وكان يقول أنوي به الطهارة للموت وقد بدت عليه علامات الإحساس بدنو الأجل فأوصى بالواجد والمندوب وكأنه مودع الدنيا من الغد ولم يفته أن يوصي حتى باللباس الذي عليه فأوصى بالعمامة ألا ترمى ولا تمزق ولا تهان ولكن إن ضاق بكم الفضاء فادفنوها فإنها شعار أهل العلم وتاج العلماء وكان قد أتخذ دفترا لوصاياه وللذي له وللذي عليه فلما كان في أيامه الأخيرة صار الدفتر قريبا من منامه ويسجل في ما يستجد ساعة بساعة وإن كان حقيرا في نظر الناس كالريال والريالين وصلى يوما ثم رأى أثر دم في ثوبه عند النوم فقام من ساعته يقضي صلوات يومه ذاك ولم يؤخرها للصباح خشية الموت.
كل هذه الأحداث كانت في أيامه الأخيرة فلما كان قبل وفاته بيومين رأى النبي {صلى الله عليه وسلم } في المنام يبتسم له ويسلمه مفتاح بيته في الجنة فاستبشر بها الوالد خيرا فلما كان اليوم الذي بعده سمعته يأذن بالمسجد وما سمعته أذن قبل ذلك اليوم وكان آخر يوم من رمضان وفي صبيحة يوم العيد غرة شوال سنة1420هـ خرج بالناس للصلاة فأمهم ثم أمرني بالخطبة وأخذ يسار المحراب ولم تمضي دقائق إلا وسقط على الأرض وقد غادرت روحه على وضوئه وفي محراب صلاته وأمام يدي ربه فيالها من ميتته كميتة مرداس وذي الثفنات فإنهم نالوا الشهادة في صلاتهم وقد تمنى الوالد الشهادة وتمنى أن يموت كميتتهم فعسى أن يكون في زمرة الشهداء.
فأضت روحه إلى بارئها بعد رحلة دامت 90 عاما قضاها في خدمة الإسلام بالسيف والقلم فرزء الإسلام بفقده وجلت علينا مصيبته. وما كان لنا إلا الصبر والسلوان والتسليم بالقضاء والقدر.
وقد رثاه شعراء كثيرون منهم الشيخ ناصر بن سالم بن سليمان الرواحي الذي رثاه بأبيات وهذه بعضا منها:
عبر تترى على أثر عبر
كل حين تتحدى للبشر
وما همهم إلا البقا
في حياة ما لها أدنى قدر
أمل مرد وعيش عامر
وسرور بعده يأتي كدر
كسحاب خلب بارقه
هذه الدنيا فبئس المستقر
لم يسالم جاهلا في غيه
لا ولا عالنا الحبر الأبر
كم فتى ما بين أهليه ثوى
حين وافاه الحمام المنتظر
كأبي الحارث نبراس التقى
علما ناهيك من قوم خير
شب ما عاش بأحضان الوفى
وتربى في بساتين الأثر
خدم العلم وأهليه على
أمل الخير ككنز مدخر
منهل يرتاده من بعده
طالب العلم فنعم المتجر
يا سمي المصطفى أوحشتنا
بعد إيناس فضاق المصطبر
من لهذا العلم يبني صرحه
عاليا يا من غدا رهين الحفر
يا فقيد العصر يا أوحده
يا عميد الشرع في بعد النظر
دعوة لبيت داعيها فلم
تكن الأبي متى حم القدر
يا أبا الحارث خلفت الأسى
بين أعداد ملايين البشر
يا أبا الحارث أظلمت الدنا
بعد إشراقك إشراق القمر
اسفى لو كان يجدي الأسف
لفقيد رزؤه إحدى الكبر
رزؤه للدين صدع ما له
قط من رأب مدى كر وفر
أمة الإسلام صبرا إننا
أمة بالصبر يهنانا الظفر
أسرة المفقود دمعي بالأسى
يسبق السحب بثجاج المطر
لكم حسن العزا من فاقد
مثلكم ما آض برق في السحر
نسأل الله له من فيضه
رحمة تترى بحسن المستقر
بجوار المصطفى مع صحبه
في جنان بين دل وخفر

كتب للمؤلف في المكتبة: